أكاديميات الكرة بالجزائر … بين الإنتشار الكثيف ورهان التكوين المفقود
في مشهد كروي يضج بحركة الأكاديميات وتضاعف أعدادها بشكل محموم، تحولت أحلام الآلاف من الأطفال وأوليائهم إلى ظاهرة اجتماعية واسعة النطاق، لكنها تثير في المقابل تساؤلات عميقة حول جدواها وتأثيرها الفعلي على مستقبل اللعبة. ففي الوقت الذي تتوالد فيه هذه الهياكل، يظل الواقع على الأرض يطرح علامات استفهام مقلقة، لاسيما وأن البطولة المحلية لا ترتقي إلى مستوى الطموح. ولا يملك المنتخب الوطني إلا عدداً محدوداً من اللاعبين المحليين الذين أفرزهم هذا المشهد. إنها معادلة معقدة تتداخل فيها الرؤى الفنية مع المصالح المادية، وهو ما دفع بخبير التنقيب عن المواهب، ياسين بوسليو، إلى تقديم تشخيص دقيق للواقع، وكشف الأسباب الجذرية لهذه الفجوة العميقة بين الأمل والواقع، واصفاً العلاج اللازم لإنقاذ مستقبل الكرة الجزائرية.
إنتشار الأكاديميات: بين الحلم التجاري وواقع التكوين الهش
يشخص بوسليو الداء الرئيسي في هذه الظاهرة، مؤكداً أن انتشار المدربين الذين لا يملكون أي مؤهلات تدريبية أو تربوية أصبح يمثل خطراً حقيقياً على مستقبل النشء، ويشرح أن الكثير من هؤلاء المدربين، يفتقرون إلى الكفاءة اللازمة للتعامل مع الفئات العمرية الصغيرة. ويجهلون تماماً المبادئ التربوية والنفسية والاجتماعية التي يجب أن تحكم عملية التكوين. فاللاعب في هذا السن لا يحتاج فقط إلى صقل مهاراته الفنية، بل إلى بناء شخصية متوازنة. وتعليمه الانضباط والروح الجماعية والمسؤولية، وهو ما لا يستطيع هؤلاء تقديمه، فهم يمارسون حسبه، التدريب دون أي مرجعية علمية أو خبرة حقيقية.
مما يضر بمستقبل اللاعبين أكثر مما يفيدهم. ويلفت بوسليو الانتباه إلى أن هذا الوضع أدى إلى تحول العديد من الأكاديميات من هدفها النبيل إلى مشروع تجاري محض، حيث يقتصر عملها على جمع الرسوم الشهرية من أولياء الأمور دون تقديم أي قيمة مضافة للاعب، ويشير إلى أن هذه الأكاديميات، التي تفتقر لأدنى شروط التدريب والإمكانيات، تعتمد بشكل كبير على برامج دعائية جاذبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أن المضمون التدريبي على أرض الواقع يبقى عشوائياً وغير منظم، مما يساهم في إحباط اللاعبين وأوليائهم، وهذا النمط من العمل التجاري ينتشر في ظل غياب تام للوائح والمعايير الرسمية، وهو ما يفرض مراجعة شاملة لسياسات الهيئات الرياضية المسؤولة عن ترخيص هذه الأكاديميات ومراقبة أدائها.
أزمة النموذج وغياب الاستثمار: أين يكمن الخلل؟
ويؤكد بوسليو أن نتائج هذا الواقع الهش تظهر جلية في المنتوج الكروي، فاللاعبون المتميزون، مثل عمورة، هم مجرد استثناء يؤكد القاعدة، التي هي غياب التكوين الصحيح، إذ يرى هذا الأخير أن نادي بارادو أفضل نموذج يحتذى به، حيث شدد على أن غالبية اللاعبين الجزائريين الذين تمكنوا من الاحتراف في الدوريات الأوروبية هم نتاج مدرسته التكوينية، ما يثبت أن الاستثمار في العمل القاعدي هو الطريق الوحيد لإنتاج لاعبين في مستوى عال، كما أن نجاح بارادو لم يكن صدفة، بل هو ثمرة استراتيجية واضحة ومدروسة، وهو ما تفتقده بقية الأندية التي تلهث وراء النتائج الآنية.
وينتقد بوسليو بشدة سياسة الأندية الجزائرية، كاشفاً أن الكثير منها ينفق الملايين سنوياً على صفقات لا تخدم الكرة، في حين لا يتجاوز إنفاقها على التكوين والفئات الشبانية نسبة 10% من الميزانية الإجمالية كل موسم، ويرى أن هذا الإهمال في الاستثمار القاعدي هو السبب الرئيسي في ضعف البطولة المحلية وعدم قدرتها على تصدير المواهب، لأنها تهتم بالنتائج الآنية على حساب البناء المستقبلي.، فهذا النهج يضمن بقاء أنديتنا في دائرة من العتمة، حيث يتم جلب لاعبين متوسطي المستوى مقابل مبالغ باهظة، في حين أن الاستثمار في المواهب الشابة هو ما يمكن أن يضمن لها الاكتفاء الذاتي على المدى الطويل.
بوسليو يصف العلاج: من الفوضى إلى الاحتراف
وفي وصفه للعلاج، قدم ياسين بوسليو خارطة طريق واضحة، حيث يرى أن الحل يبدأ من الأساس، أي بوضع خطة استراتيجية طويلة المدى. أولها إجبار الأندية على الاهتمام بالعمل القاعدي وبناء مراكز تكوين وفق المعايير الدولية. كما يرى أن على هذه المراكز أن تتوفر فيها الكفاءات التدريبية المتمكنة، التي تملك منهجية وفلسفة تكوين تتلاءم مع خصوصيات اللاعب الجزائري، كما أن هذه الأكاديميات حسبه، يجب أن تتبنى نظاماً تربوياً يجمع بين الرياضة والدراسة، لتمنح اللاعبين ظروفاً مثلى للتطور الشامل، وتمنعهم من إهمال مسارهم الأكاديمي.
ويؤكد بوسليو على أهمية الدور المحوري لكشاف المواهب، الذي يعتبره “الحلقة الأبرز” في سلسلة نجاح أي لاعب، ويصف كيف أن كشاف المواهب المحترف لا يتردد في قطع مئات الكيلومترات من أجل تقييم لاعب شاب، ليس فقط على أساس مهاراته التقنية وقدرته على التحكم في الكرة، بل أيضاً بناءً على بنيته الجسدية، لياقته البدنية، حماسه، وسلوكه وانضباطه داخل وخارج الملعب، حيث لا يمكن لهذا الدور أن ينجح إلا بوجود خلايا خاصة للتنقيب تابعة للأندية، تعمل بشكل ميداني ومحترف، وتبرم شراكات مع النوادي الهاوية لاكتشاف أفضل المواهب. وفي الختام، يوجه بوسليو رسالة قوية إلى صناع القرار في كرة القدم الجزائرية، مؤكداً أن المشكل لا يكمن في غياب المواهب، بل في إهمالها وتهميش الكفاءات التي يمكن أن تكتشفها وتصقلها، ويدعو إلى ضرورة منح الفرصة للجزائريين المتفوقين في هذا المجال، ووضع حد للظاهرة السلبية المنتشرة ، لأن هذا هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل مشرق للكرة الجزائرية.
مها. ك



