متفرقات

رحيل عبد القادر مرابط … وداعًا لعميد الدراجة الجزائرية

بقلوب خاشعة وإيمان بقضاء الله وقدره، ودّعت الأسرة الرياضية الجزائرية عامة، وعائلة الدراجة الوطنية على وجه الخصوص، أحد أعمدتها البارزين وعميد مدربيها، الشيخ عبد القادر مرابط، الذي وافته المنية في حادث مرور مؤسف بمدينة وهران، وهو يؤدي واجبه النبيل إلى آخر لحظة من حياته. رحيل مدوٍّ أنهى مسيرة قاربت سبعة عقود، عاشها الفقيد فوق “الملكة الصغيرة”، لاعبًا ومدربًا وصانعًا للأبطال، تاركًا وراءه تاريخًا مجيدًا، وأجيالًا من الدراجين الذين تعلموا على يديه معنى الانضباط والالتزام، والأهم معنى حب الرياضة.

حادث أليم أنهى حياة حافلة بالعطاء

شاء القدر أن تكون النهاية مأساوية ومؤلمة. فقد كان الشيخ مرابط، كعادته، يتابع تدريبات أشباله على متن دراجته النارية، حين اصطدمت به سيارة قبل أن تدهسه شاحنة تسير بسرعة جنونية. وقع الحادث أمام أعين تلامذته الذين وقفوا عاجزين ومصدومين وهم يشاهدون مدربهم وأباهم الروحي يُنقل على جناح السرعة نحو مستشفى USTO الجامعي بوهران. هناك لفظ أنفاسه الأخيرة، تاركًا جرحًا غائرًا في قلوب كل من عرفه ورافقه في مشواره الطويل. إنها مفارقة حزينة، أن يرحل الرجل الذي عاش حياته كلها على ظهر الدراجة وهو يخدمها، فوق دراجته، وسط تلامذته، وفي ميدان عشقه الأول والأخير.

صدمة كبيرة داخل الأسرة الرياضية

فور انتشار خبر الوفاة، عمّ الحزن أرجاء الوسط الرياضي. الاتحاد الجزائري للدراجات، برئاسة السيد خير الدين برباري، سارع إلى إصدار بيان تعزية مؤثر، عبّر فيه عن “بالغ الحزن والأسى لفقدان أحد أعمدة الدراجة الجزائرية وناخبها الوطني السابق للإناث”، موجّهًا باسم المكتب الفيدرالي وكامل الأسرة الرياضية أحر التعازي وأصدق المواساة إلى عائلة الفقيد، راجيًا من الله أن يتغمده بواسع رحمته. اللافت أن وقع الفاجعة لم يقتصر على محيط الدراجة فقط، بل امتد إلى مختلف الرياضات، وحتى الأوساط الأكاديمية والثقافية في وهران، حيث كان عبد القادر مرابط شخصية معروفة ومرموقة، رمزًا للثبات والعطاء المتواصل.

شهادة من القلب… البطلة نسرين حويلي

من بين أكثر الشهادات تأثيرًا، ما كتبته البطلة الجزائرية نسرين حويلي، إحدى خريجات مدرسة الفقيد وأبرز إنجازاته في مجال التكوين. بكلمات دامعة قالت: “اليوم فقدت أبي الثاني، مدربي وصديقي وقدوتي… هو الرجل الذي آمن بي أكثر مما آمنت بنفسي، وكان يقودني دائمًا إلى الأمام. لن أنسى تلك الأيام التي كان يلاحقني فيها على دراجته النارية في الحصص الطويلة، غير مبالٍ بحرارة الصيف أو برد الشتاء، همه الوحيد أن يجعلني أفضل…”. وأضافت: “لقد علّمني أن لا أستسلم، وأن أواجه الحياة بحلوها ومرّها، وكان يناديني دائمًا بـ«بنتي». لم يكن مدربًا فقط، بل كان فردًا من عائلتي، شاركنا الأفراح والمناسبات، وغرس فينا قيم العمل والأمل. رحمة الله عليك يا أبي الثاني”. هذه الكلمات تلخص في جوهرها مكانة الراحل في نفوس تلامذته، إذ لم يكن مجرد مدرب ينقل تقنية، بل مربٍ وصديق وأب.

مسيرة لاعب من ذهب

وُلد عبد القادر مرابط في 25 فيفري 1942 بوهران، ومنذ صغره انجذب إلى عالم الدراجات. في سنة 1956، التحق بنادي أولمبيك بولونجي مع فئة الأصاغر، لتبدأ رحلة مميزة. تنقل بعدها بين عدة أندية أبرزها الجمعية الرياضية للشرطة بوهران، قبل أن يعود مجددًا إلى فريقه الأول. سرعان ما برز اسمه في البطولات الجهوية والوطنية، بل وتمكن من المنافسة على الصعيد الدولي، حيث شارك في عدة دورات بفرنسا وألمانيا، وتوج ببطولات جهوية ووطنية، منها بطولة فرنسا سنتي 1959 و1961، قبل أن يكون من أوائل من مثلوا الجزائر في المحافل الدولية بعد الاستقلال. كما كان من المؤسسين الأوائل لرابطة وهران للدراجات عام 1962، وهو ما يؤكد وعيه المبكر بضرورة بناء هياكل تنظيمية للنهوض بالاختصاص.

من البطولة إلى التدريب

لم يكتف الفقيد بمسيرة رياضية زاخرة، بل سارع إلى خوض تجربة التدريب منذ سنة 1957، حيث جمع بين المنافسة والتكوين. أشرف على فرق عديدة، أبرزها مولودية وهران، نادي نافطال وهران، والمنتخب الوطني بمختلف فئاته: المضمار، الشباب، والإناث.لكن بصمته الأكبر كانت في مجال تكوين الفتيات، حيث آمن بقدرات المرأة الجزائرية في هذه الرياضة الصعبة، ووقف وراء بروز أسماء لامعة مثل نسرين حويلي، التي حملت على عاتقها راية الدراجة النسوية في المحافل القارية.

مدرب وأب لأسرة رياضية

عبد القادر مرابط لم يكن رياضيًا منعزلًا، بل أسّس عائلة بأكملها على حب الدراجة. ابناه شريف ومنير برزا بدورهما كدراجين، حيث مثل الأول المنتخب الوطني الجزائري وواصل مشواره كمدرب في السعودية، بينما كان الثاني من الأسماء المحترمة محليًا. وهكذا تحولت عائلة مرابط إلى “عشيرة للدراجة” تجسد شغف الأب وحرصه على أن تظل الرياضة أسلوب حياة. ما يميز مسيرة عبد القادر مرابط ليس فقط عدد البطولات أو الألقاب، بل القيم التي نشرها في محيطه. كان نموذجًا للانضباط، يزرع في أشباله حب الرياضة والإصرار على النجاح. علمهم أن الطريق إلى القمة يمر عبر الصبر والعمل والتواضع. وكان بشهادة الجميع قريبًا من لاعبيه، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، يفتح لهم بيته ويعاملهم كأبناء. لقد رحل الرجل، لكن سيرته ستظل محفورة في ذاكرة كل من عرفه.

رحيل يُعيد فتح جراح الطريق

حادثة وفاة الشيخ مرابط فتحت مجددًا ملف الطرقات في الجزائر، حيث تحولت إلى هاجس حقيقي يهدد حياة المواطنين، خصوصًا الرياضيين الذين يقضون ساعات طويلة في التدريبات على الطرق العامة. الكثيرون اعتبروا أن رحيله بهذه الطريقة رسالة مؤلمة للسلطات والمجتمع بضرورة تعزيز ثقافة السلامة المرورية وحماية الأرواح.

كلمة وداع

رحل عبد القادر مرابط، لكن ذكراه ستبقى حيّة. رحل الجسد، لكن الإرث سيظل حاضرًا في كل دراجة تصعد المضمار، وفي كل بطولة يرفع فيها تلميذ من تلامذته العلم الجزائري عاليًا. هو رجل عاش ومات من أجل الدراجة، أحبها حتى آخر نفس، وترك خلفه وصية غير مكتوبة: “لا تستسلموا، واصلوا خدمة هذه الرياضة، واجعلوا منها مصدر أمل وفخر”. رحمة الله عليك، شيخ المدربين وعميد الدراجة الجزائرية. إنا لله وإنا إليه راجعون.

مصطفى خليفاوي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى