نادي الذهب الأسود للجي جيتسو … حيث تُصنع الإرادة من صلب الصحراء

في قلب مدينة حاسي مسعود، تتألق قصة مختلفة لصناعة ذهب من نوع آخر؛ ذهب يُصاغ من العزيمة، ويُصقل بالانضباط. إنها قصة نادي الذهب الأسود للجوجيتسو وقائده الملهم، المدرب والرئيس زين الدين بوكحيل، الذي تحدثت معه بولا ليكشف عن فلسفة رياضية وإنسانية فريدة، نجحت في تحويل أصعب التحديات إلى قوة دافعة، وفي بناء مجتمع لا يقيس نجاحه بالميداليات وحدها. يقول زين الدين بوكحيل إن قصة النادي بدأت من شغف شخصي بالرياضة، يعود إلى سنوات طفولته الأولى في حاسي مسعود، ففي تلك المدينة التي كانت تعاني من شح الأنشطة الرياضية، تعلق قلبه بفنون القتال.
ومارس الكاراتيه في صغره، لكنه لم يجد ضالته الكاملة. وعندما انتقل إلى العاصمة للدراسة في الجامعة، اكتشف صالة للأيكيدو وبدأ يتدرب بانتظام، حتى وصل إلى مستوى عالٍ فيه. لكن نقطة التحول الحقيقية جاءت بعد عودته إلى حاسي مسعود، حيث كانت طبيعة عمله تتطلب منه فترات راحة طويلة، وفي أحد الأيام، شاهد فيلماً وثائقياً عن عائلة غرايسي البرازيلية التي ابتكرت رياضة الجوجيتسو، لقد سُحر بهذا الفن القتالي الذي يجمع بين القوة والذكاء، وقرر أن ينقل هذا الحلم إلى مدينته، بدعم من ‘الشيخ عبد القادر السعودي’، بدأ في تأسيس ناديه في عام 2011، لم يكن الطريق مفروشاً بالورود، بل بدأ من الصفر، بموارد شخصية بسيطة وإيمان راسخ بأن الإرادة القوية هي مفتاح كل إنجاز.
فلسفة تتجاوز الميداليات ببناء الشخصية قبل البطل
بالنسبة لزين الدين، النجاح الحقيقي ليس في عدد الميداليات، بل في بناء الشخصية، حيث تتمحور فلسفة النادي حول أن الرياضي الناجح هو ذلك الذي يمتلك عقلاً قوياً، ففي هذا النادي لا يكتفون بتعليم تقنيات القتال، بل يهدفون إلى تخريج شباب ناجح في كل جوانب حياته، بدءاً من الانضباط الذاتي، يقول بوكحيل: “لا نسعى فقط لتعليمهم كيفية القتال، بل نهدف إلى أن يكونوا أشخاصاً ناجحين في دراستهم وفي حياتهم الاجتماعية”، هذا المبدأ يجعل النادي يتجاوز دوره الرياضي، ليصبح مؤسسة تربوية واجتماعية.
ويوضح المدرب كيف يطبق هذه الفلسفة بشكل عملي، حيث يرى أن الأطفال ‘عجينة’ قابلة للتشكيل، في بداية كل موسم رياضي، يطلب من أولياء الأمور إحضار كشوف نقاط أبنائهم، ويشدد على ضرورة اهتمامهم بدراستهم بقدر اهتمامهم بالرياضة، كما لا يتهاون أبداً في مسائل السلوك والانضباط؛ ويضرب مثالاً برياضي صغير كان يمتلك موهبة كبيرة، لكنه كان يحضر بتسريحة شعر غريبة، يقول بوكحيل: “طلبنا منه أن يهتم بمظهره الخارجي، لأن هذا جزء من الانضباط، ولم يمانع”، هكذا، يتم غرس الانضباط خطوة بخطوة، معتبراً أن التقنية يمكن تعلمها، ولكن الشخصية تحتاج إلى بناء. وقد انعكست هذه الفلسفة على الإنجازات التي حققها النادي، فبعد عام من العمل الشاق، تمكن رياضيوه من تحقيق حصيلة رائعة بلغت 40 ميدالية في البطولة الوطنية، منها 11 ميدالية ذهبية، كما حصدوا ميداليات دولية مشرفة في بطولات إفريقية بالمغرب، مما يؤكد أن الإرادة والعقلية القوية هما أساس النجاح.
وبالنسبة الإنجاز الأكثر عمقاً الذي يفخر به النادي، فلا يرى على منصات التتويج، فدوره في خدمة مجتمع حاسي مسعود هو بمثابة الكنز الحقيقي، إذ يرى أن النادي ليس مجرد قاعة للتدريب، بل هو ملاذ آمن يوفر ‘راحة إيجابية’ لأعضائه، يقول بوكحيل: “الرياضة هي أداة لبناء حياة جديدة وصحية”.
وقد تجسد هذا في قصص ملهمة، كقصة الطفل المصاب بالتوحد الذي استطاع أن يندمج في المجتمع ويتخلص من عزلته بفضل التدريب، كما أن النادي أصبح ملاذاً للمحترفين من الأطباء والمهندسين والمديرين، الذين يجدون في القاعة متنفساً من ضغوط العمل، ويرى بوكحيل أن الكيمونو هو بمثابة حلبة صراع مع النفس، حيث يترك الشخص مشاكله خارجاً، ويعالج ضغوطه النفسية داخل القاعة، هذه العقلية العلاجية هي ما يجعل النادي يقدم خدمة تفوق أي تدريب بدني، ويعتقد بوكحيل أن هذا هو “الإنجاز الأعمق الذي نفخر به، والذي لا يُقدر بثمن”.
بناء فريق لا يعتمد على قائد
لا يخفي رئيس النادي الصعوبات التي يواجهها، أبرزها قلة الدعم الرسمي والمادي. فالموارد محدودة جداً، وكثيراً ما يتكفل بالإنفاق من ماله الخاص. لكنه حول هذا التحدي إلى قوة دافعة، وغرس في فريقه ثقافة الاعتماد على الذات. يقول بوكحيل: “نحن نطلب من الدولة أن تلتفت إلينا، لكننا حولنا هذا النقص في الدعم إلى قوة دافعة للنادي”.
إن هذه الصعوبات التي يواجهونها هي التي تصقل شخصيتهم وتجعلهم أقوى. إن الهدف الأسمى للمدرب زين الدين بوكحيل هو أن يضمن استمرارية النادي ونجاحه، بحيث لا يرتبط مصيره بوجوده كقائد، ففلسفته تقوم على ما يسميه “خطة التتابع”، حيث يقول: “لا يمكن لقائد واحد أن يفعل كل شيء، فالقيادة الحقيقية ليست أن تمتلك كل شيء لنفسك، بل أن تبني فريقاً قوياً وقادراً على الاستمرار”.
ولتحقيق ذلك، يركز المدرب على بناء قادة جدد منذ سن مبكرة، من خلال إعطاء مسؤوليات للاعبين المتميزين، وهو يرى أن نجاحه الأكبر يكمن في تأهيل لاعبيه، ليصبحوا مدربين بحد ذاتهم، ويختتم بوكحيل حديثه بأن “الذهب الحقيقي في نادي الذهب الأسود ليس في الميداليات، بل في صناعة جيل من القادة الذين سيحملون الراية، ويضمنون أن تبقى قصة النادي خالدة للأبد”.
حليمة.خ