المحلي

فريق جبهة التحرير الوطني .. قصة كفاح كروي في قالب ثوري سياسي

يحمل المنتخب الجزائري لكرة القدم تاريخًا كرويًا وسياسيًا قلما يتكرر، فقميص الخضر كان له تاريخ في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، بفريق «جبهة التحرير الوطني» الذي أحرج فرنسا، وتمكن من نقل مفاوضات الاستقلال من مجلس الأمن إلى المستطيل الأخضر. وبالعودة لتاريخه العريق لابد من الحديث عن معانات أوروبا من ويلات الحرب العالمية الثانية اقتصاديًا وسياسيًا، فيما بدأت الشعوب المحتلة في إنشاء حركات وأحزاب تطالب بالاستقلال بالسياسة تارة، وبالكفاح المسلح تارة أخرى، والجزائر شأنها شأن الدول المحتلة برزت فيها نداءات الاستقلال. وأبرز حركاتها «حركة انتصار الحريات الديمقراطية»، والتي بدأت في منتصف أربعينات القرن العشرين، لكن انقسامها عام 1953 أدى إلى ظهور فريق يتبني الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. ألا وهو فريق جبهة التحرير الوطني. حيث تمكن من تأسيس «مجموعة الـ22»، ثم «لجنة التسعة» أعلن في 22 جوان عام 1954 تشكيل «جبهة التحرير الوطني»، وفي الأول من نوفمبر من نفس العام شقت الثورة الجزائرية طريقها في البلاد، مع جناح عسكري يحمل الكفاح المسلح طريقًا للنضال والاستقلال، عرف باسم «جيش التحرير الوطني».

من كفاح الجبال إلى كفاح الملاعب

في ظل تصاعد أحداث الثورة الدامية في الجزائر، وسقوط المزيد الشهداء، شُكل فريق لكرة القدم جزائري عام 1958، هو «فريق جبهة التحرير الوطني»، شُكل ليصبح سفيرًا للقضية الجزائرية حول العالم عبر الرياضة، أما لاعبو الفريق فكانوا لاعبين محترفين في الدوري الفرنسي الدرجة الأولى والثانية، وأيضًا من المحترفين في دول شمال أفريقيا، وقد جاء تشكيل المنتخب الجزائري ضربة موجعة لفرنسا سياسيًا، وكرويًا أيضًا.

«شهر عسل مزيف» وراء تشكيل المنتخب الجزائري

اهتدت «جبهة التحرير الوطني» إلى خطة مُحكمة لتشكيل فريقها الكروي سرًا، ودون أن تعلم الحكومة الفرنسية التي كانت ستعرقل إنشاء مثل هذا الفريق، لجأت جبهة التحرير إلى محمد معوش، وهو لاعب كرة قدم يلعب في فرنسا، وزوجته خديجة، وكان محمد وخديجة قد تزوجا حديثًا، لذا اعتمدت الخطة عليهما. وكلاهما كانا أعضاء في «جبهة التحرير الوطنية». أما خطة تشكيل المنتخب الجزائري فكانت كقضاء «شهر عسل» مزيف. حيث أخذ محمد معوش خطابًا من ناديه «ستاد ريمس» الفرنسي، يحمل فيه تصريحًا بالإجازة للاحتفال بزواجه، وانطلق محمد وخديجة في سيارتهم لمدة 48 ساعة، وكانت مهمتهم السرية هي إقناع لاعبي كرة القدم الجزائريين المولودين في الجزائر بالتخلي سرًا عن أنديتهم الفرنسية الكبرى، واللعب مع فريق «جبهة التحرير الوطني»، روت خديجة لاحقًا في خرجاتها الإعلامية أنها كانت مسؤولة عن الاتصال باللاعبين، سواء قبل، أو أثناء اللعب، تقول خديجة: «كنت أتحدث معهم على انفراد، وقد وافقوا جميعًا». بعد تجنيد اللاعبين التقت خديجة بمسؤول من «جبهة التحرير الوطني» في «سوبر ماركت»، وألقى بداخل حقيبتها 15 وثيقة سفر مزورة للاعبين، وبهذه الهويات تمكن لاعبو المنتخب الجزائري من الهرب سرًا من فرنسا، وكان من هؤلاء اللاعبين الذي هجروا أنديتهم لاعبون كان من المقرر لهم اللعب في تشكيلة المنتخب الفرنسي في كأس العالم 1958، لذا شعرت فرنسا بالإهانة كرويًا مثلما شعرت بها سياسيًا.

من فرنسا نحو إيطاليا وسويسرا وصلا لتونس

لم تكن الرحلة سهلة أبدًا على اللاعبين، في مثل هذا الشهر من عام 1958، حيث أخذ لاعبو المنتخب الجزائري زوجاتهم – منهن فرنسيات – وأولادهم وتركوا خلفهم في فرنسا كل شيء، حتى حساباتهم البنكية تركوها لكيلا يثيروا الشكوك حولهم، الرحلة كانت بالأوراق المزيفة من فرنسا إلى إيطاليا، وهناك آخرون ذهبوا إلي سويسرا حيث عاشوا في فندق صغير، ليعبر بهم البحر إلى تونس مقر الجبهة المؤقت حتى الاستقلال، كان أطفالهم يتساءلون: «لماذا نترك فرنسا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟» وكان اللاعبون لديهم إجابة واحدة تقريبًا: «إلى وطننا الجزائر».

صحافة المستعمر جن جنونها

الجرائد الفرنسية طاردت اللاعبين الهاربين عبر «مانشيتات» تبرز اختفاءهم، وبدأ الخبر في الانتشار، وقبض على اثنين من اللاعبين وهم يحاولون الهرب (محمد معوش، وحسان شاربي)، وسجن اللاعبان، إلى أن لحق معوش بالفريق عام 1960، وركزت الجرائد الفرنسية علي اللاعبين الذين كان من المقرر لهم ارتداء قمصان المنتخب الفرنسي في كأس العالم 1958، وهم مصطفي زيتوني، ورشيد مخلوفي، وعبد العزيز بن تيفور، وأيضًا عبد الرحمن بو بكر. استقر المنتخب الجزائري في تونس، ومنح اللاعبون صفة اللاجئين السياسيين، وخصص لهم ملعب للتدريب، وبدأ محمد بومزراق في الإشراف علي الفريق، ويرافقه مختار عريبي في تلك المهمة إلى أن انكشف الفريق على العالم أخيرًا.

محاربو الصحراء أبهروا العالم

مثلما امتلكوا شجاعة الهرب من فرنسا، والمخاطرة بمستقبلهم، امتلك اللاعبون الجزائريون نفس الروح داخل المستطيل الأخضر، كان منتخبا قويًا، فاز الفريق الجزائري علي تونس عدة مرات، وكذلك المغرب، والمجر، ويوغسلافيا، ورومانيا، وتشيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفيتي، والأردن، والعراق، وفيتنام، وتشير الإحصائيات أن فريق «جبهة التحرير الوطني» فاز في ثلثي المباريات التي لعبها، بينما تعادل بنسبة أكبر من الخسارة في الثلث المتبقي. سارع الاتحاد الفرنسي لكرة القدم إلى تقديم شكوى لـ«الفيفا» يطالب فيها بمنع هؤلاء اللاعبين المتمردين من ممارسة كرة القدم في أي فريق، وفٌسخت عقودهم مع الفرق الفرنسية التي كانوا يلعبون فيها، وقرر «الفيفا» منع فريق «جبهة التحرير» من المشاركة في أية منافسة دولية، وقد تفاعلت أغلب الاتحادات الكروية في الدول الأوروبية إيجابيًا مع الشكوى الفرنسية. «الفيفا» هدد أيضًا أية دولة تستقبل هذا الفريق الذي «ليست له سيادة» بالعقوبة، ولكن كان هناك دول تحدت الحظر، واستقبلت فريق «جبهة التحرير»، ونظمت له مباريات فاق عددها 90 مباراة، حتى الاعتراف الدولي بالجزائر المستقلة عام 1962، والاعتراف بالفريق الوطني من قبل «الفيفا» عام 1963. كان لفريق جبهة التحرير دور مهم في تعريف العالم بالقضية الجزائرية في جولاته الكروية التي خاضها حول العالم، وساهم بشكل أو بآخر في استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، وبعد الاستقلال عاد اللاعبون إلي حياتهم الكروية، منهم من استقر في الجزائر كلاعبين في النوادي الجزائرية أو مدربين فيها، وآخرون عادوا للفرق الفرنسية التي كانوا يلعبون فيها، بعدما رفع عنهم الاتحاد الفرنسي لكرة القدم الحظر. لاعبون آخرون انضموا إلى فرق أوروبية مثل مخلوفي الذي ذهب إلى فريق سرفييت جنيف السويسري ومعوش إلى فريق مونتينني في سويسرا أيضًا، ولكن مخلوفي عاد مرة أخرى إلى نادي سانت إيتيان قائدًا وفاز معه بالدوري الفرنسي للمرة الثانية عام 1964، وحقق لقبي الدوري والكأس عام 1968، وكان قد أهدى فريقه لقب الدوري الأول عام 1957. ليعود ويهدي الجزائر أول ميدالية ذهبية في الألعاب المتوسطية بالفوز على فرنسا في ملعب 5 جويلية 1975. ليساهم فيما بعد جل لاعبي جبهة التحرير في الرقي بالكرة الجزائرية، سواء على صعيد المنتخب أو الأندية كمدربين بارزين على غرار الراحلين بخلوفي و رويعي، سعيد عمارة، دون نسيان عبد الحميد كرمالي، الذي أهدى الجزائر أول كأس لأمم الإفريقية سنة 1990.

من إعداد : بن حدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
P